بداية لا بد من إيضاح الهدف الرئيسي من الكتابة حول الثورة الروسية الآن وبعد مرور ثمانين عامًا بالضبط على أكتوبر 1917. فليس هدفنا – بالطبع – هو إزالة الأتربة عن “الأيقونة المقدسة” التي تزين جدران عقائدنا لنتلو في ذكراها تعاويذنا المحفوظة عن ظهر قلب – فلا هي مجرد أيقونة ولا نحن من حافظي التعاويذ كالببغاوات! الهدف – فيما نرى – هو أن نتعلم – نحن الأجيال الجديدة من الثوريين – من خبرة أول ثورة عمالية ظافرة في التاريخ.

ستعطينا دروس ثورة 1917 القدرة على الدفاع عن الثورة وعن الاشتراكية ضد الأكاذيب والخزعبلات البرجوازية المنتعشة الآن والتي تؤكد أن الثورة الروسية لم تكن إلا انقلابًا – سيء السمعة – قاده أحد المغامرين والمحظوظين، أو التي تطمئن نفسها بالترديد الممل لمقولة أن التجربة الكابوسية لأكتوبر 1917 لن تتكرر أبدًا لأنها امتلكت ظروفًا خاصة جدًا تستحيل استعادتها في ظل عهد “ثورة” المعلومات والاتصالات! هذه الأكاذيب والخزعبلات – وغيرها كثير – ستتساقط حالمًا نتتبع كيف استطاعت (وستستطيع) الجماهير أن تتقدم إلى مقدمة المشهد لتأخذ مصيرها بيديها وتصنع التاريخ.

وقبل أن ندخل إلى أحداث انتفاضة فبراير 1917، والتي انطلقت منها الشرارة الأولى للثورة الروسية، لا بد لنا من أن نلقي نظرة هادئة على الأوضاع العامة في روسيا القيصرية، والتي أفرزت – فيما بعد – ثورة اشتراكية أسقطت القيصرية وقضت على البرجوازية وحققت السلطة العمالية.

علاقات القوى الطبقية في روسيا القيصرية:

إن قانون “التطور المركب واللا متكافئ”، الذي صاغه ليون تروتسكي في أوائل هذ1 القرن، يعني ببساطة تجاور مقومات التخلف والتقدم في بلد واحد بسبب من تأخر تطوره الرأسمالي. في بلد كهذا يحدث التطور كنتيجة لقفزات فوق مراحل عديدة مرت بها الدول المتقدمة الأخرى على مدى عقود وقرون.

ولقد كانت روسيا المتخلفة – أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي – هي إحدى ساحات تطبيق هذا القانون حيث تطورت صناعتها بسرعة بالغة بينما بقيت غالبية أشكال الإنتاج الزراعي حتى اندلاع الثورة في مستوى زراعة القرن السابع عشر تقريبًا. وفي وقت مبكر، تم اندماج رأس المال الصناعي ورأس المال المصرفي بشكل كامل مما عنى تعلق الصناعة بسوق الأوراق المالية في أوربا الغربية حيث كان الأجانب يملكون حوالي 40% من مجموع رؤوس الأموال المستثمرة في روسيا. ومن ثم، حددت بنية الصناعة الروسية وظروف تطورها الطبيعية الاجتماعية لبرجوازية البلاد وشكلها السياسي. وبما أن أهم المشروعات في مجالات الصناعة والمصارف والنقل كان بيد الأجانب الذين وقفوا بشراسة – جنبًا إلى جنب مع البرجوازية المحلية الضعيفة والخانقة – ضد خلق نظام برلماني في روسيا، فقد أدى كل هذا للعزلة السياسية التي عرفتها البرجوازية الروسية ولموقفها المعادي للشعب والثورة.

كان “الكاديت” (حزب الديقراطيين الدستوريين) هو الشكل السياسي للبرجوازية الليبرالية التي نادت بالإصلاحات السياسية المحدودة والمتناسبة مع عجزها وضعفها ومع رغبتها في الوصول لحل وسط مع القيصرية المعادية للجماهير. وسنرى خلال أحداث الثورة كيف أثبت الكاديت، بعد استيلائه على السلطة في مارس 1917، عجزه وخيانته التأمين للثورة ولمصالح الجماهير في السلام والخبز والحرية، وكيف أدى هذا العجز وهذه الخيانة إلى سقوط الكاديت من السلطة فاتحًا الطريق لاستمرار وتعميق الثورة حتى النصر النهائي في أكتوبر.

أما بالنسبة للطبقة العاملة الروسية، فقد كان لقانون التطور المركب واللا متكافئ تأثير واضح على تطورها، حيث أنها لم تنحدر من الصناعات الصغيرة والورش الإنتاجية المتخلفة نسبيًا كما هو الحال في الدول الرأسمالية الأولى التي تطورت صناعتها تدريجيًا: لم يأت العمال الروس من المدن بل من القرى، ولم تتكون الطبقة العاملة الروسية – المتمركزة في مصانع كبرى – ببطء بل بوثبات وتبدلات مفاجئة وبقطع عنيف لكل ما كان قائمًا بالأمس. ولقد تضافرت هذه العوامل مع نظام القمع القيصري الشديد في جعل العمال الروس مؤهلين تمامًا لتقبل أكثر الأفكار الثورية جرأة.

نستطيع أن نربط هنا عجز البرجوازية الروسية السياسي آنذاك، بعدم قدرتها على جر العمال وراءها. ناضل العمال ضد الرأسماليين بشكل يومي في المصانع، ليس هذا فقط بل أنهم عرفوا كيف يعطون مطالبهم معنى أوسع. ولقد تعلموا ذلك مبكرًا جدًا.

ونظرًا لشبكة المصالح التي ربطت بين البرجوازية وكبار الملاك الزراعيين فقد تقطعت الصلة بينها وبين الفلاحين كذلك. وحتى عندما واتت الفرصة البرجوازية في أحداث ثورة 1905 (المقدمة الحقيقية لثورة 1917) لكي تستخدم حركة الجماهير كورقة حماية من القيصرية، كانت النتيجة هي الفشل ذلك أن العمال لم يمنحوها تلك الأمنية عندما نظموا صفوفهم في سوفييتات أو مجالس عمالية وتحركوا بشكل مستقل تمامًا عن البرجوازية ومال إليهم الفلاحون وعناصر ثورية من الجيش. ولكن لأن الطبقة العاملة وحزبها الثوري لم يكونا قد امتلكا بعد الخبرة الكافية لتصعيد الموجة لحدها الأقصى ثوريًا فقد تأجلت، لمدة 12 عامًا، اللحظة الحاسمة التي أطاحت بالقيصرية التي طال احتضارها، وبالبرجوازية المولودة توًا، ولكن العاجزة تمامًا كذلك.

بعد أحداث ثورة 1905، والتي انفصل فيها البرجوازيون تمامًا عن جماهير العمال والفلاحين، أضحت البرجوازية تمامًا عن جماهير العمال والفلاحين، أضحت البرجوازية أشد تحفظًا وأكثر شكًا ورجعية، وتقلص تأثير المثقفين الديمقراطيين بازدياد خضوعهم لليبرالية البرجوازية. هنا كانت البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة القادرة على تقديم برنامج، لواء، وقيادة للفلاحين ولكافة الجماهير المضطهدة والمستغلة والمتأخرة.

ولقد تأسست على هذه الظروف كامل مفارقة الثورة الروسية في 1917. ففي دولة لم تنجز بعد مهام ثورتها البرجوازية (الديمقراطية البرجوازية، الإصلاح الزراعي، الاستقلال السياسي الكامل)، أضحت الطبقة العاملة – وليست البرجوازية – هي الطبقة المؤهلة لقيادة المجتمع إلى التغيير الثوري. وكان معنى هذا أن الثورة العمالية في أكتوبر 1917 قامت على تضافر عاملين تاريخيين مختلفين تمام الاختلاف: حرب فلاحية، أي حركة تحدد فجر التطور البرجوازي، وانتفاضة بروليتارية، أي حركة تبشر بغروب المجتمع البرجوازي.

ولقد تعلم العمال الطليعيون الروس السياسة الاشتراكية الثورية في مدرسة البلشفية (الحزب العمالي الثوري في روسيا)، وأخذوا دروسهم الأولى من خلال الإضرابات والمظاهرات ومصادمات الشوارع مع الشرطة والجيش، وأيضًا – وبالتأكيد – من خلال الحلقات الثورية السرية الأولى التي تأسست في روسيا في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وأخيرًا من خلال المعلم الأعظم: ثورة 1905.

ونظرة سريعة على عدد واتساع الإضرابات التي شهدتها روسيا في سنوات المد والثورة (من التسعينات وحتى 1907، ومن 1912 وحتى 1917) تجعلنا نكتشف عمق الطاقة الثورية التي امتلكها عمال هذا البلد المتخلف صناعيًا والذي وصل عدد عماله في 1905 إلى مليون ونصف المليون وفي 1917 إلى مليونين.

وبالفعل كانت الحركات والأحزاب الثورية في حالة غليان وتطور – بل وتبدل عنيف – في طول المراحل المؤدية إلى 1917. كان هناك البلاشفة، الذين أسمتهم تقارير الشرطة السرية “المجموعات والأفراد المتخلقين حول لينين”. كان البلاشفة هم أكثر القوى فعالية وحماسًا، وكانوا يتميزون عن باقي القوى الاشتراكية بنضالهم المستميت ضد رضوخ الطبقة العاملة الروسية لسيطرة البرجوازية الليبرالية، وبدفاعهم المتواصل عن استقلالية السياسة البروليتارية وعن المصالح الكلية وطويلة الأجل للعمال. كان الحزب البلشفي يعبر في حقيقة الأمر، وبشكل رئيسي، عن المطامح الثورية للعمال، وأيضًا عن مطامح اغلب الفلاحين الفقراء ألمعدومي الملكية الذين خانتهم البرجوازية في 1905.

أما المناشفة، وهو حزب يضم اشتراكيين من كل جنس ولون، فقد كان – كما أثبتت الأحداث – هو قلعة الانتهازية في الحركة العمالية الروسية. اعتقد المناشفة انه بما أن هناك ملامح برجوازية أساسية للثورة الروسية القادمة، فإنه من الواجب على العمال أن يسيروا وراء البرجوازية، وأن يقبلوا مشروعها السياسي بكامله وبدون اعتراض. ظل المناشفة، طوال السنوات المؤدية إلى الثورة، يحاولون “قيادة” البروليتاريا الروسية إلى “تذيل” البرجوازية الرجعية. وهكذا، فإن حجتهم الأساسية ضد أي مبادرة ثورية حقيقية للعمال، كانت دائمًا: “أننا بهذا سنخيف الليبراليين وسندفعهم إلى أحضان القيصر!! والواقع أن الليبراليين كانوا قد وقعوا منذ زمن طويل في أحضان القيصر – زمن يسبق بكثير زمن وقوع المناشفة في أحضان الليبراليين.

ومن ناحية أخرى كان هناك حزب الاشتراكيين الثوريين، وهو حزب البرجوازية الصغيرة الفلاحية في روسيا. ولقد تميز تاريخ هذا الحزب الذي ورث حركة الشعبويين (المناضلين والأوائل ضد القيصرية) بالتذبذب بين أقصى المتناقضات. وفي مرحلته الأخيرة – عشية الثورة – كان الحزب قد تكيف مع مقتضيات التطور البرجوازي، عاكسًا بذلك عدم قدرة ممثلي الفلاحين – “المستقلين” عن الطبقة العاملة – على الاستقلال عن البرجوازية ومصالحها الإستراتيجية.

هذه، وبشكل مخل، هو خريطة القوى “الاشتراكية” الأساسية التي اصطرعت على مدى الشهور الثمانية من فبراير وحتى أكتوبر 1917، والتي عبرت عن الميول والإمكانات المختلفة التي خلقتها روسيا الثورية.

ولكن قبل أن نتحدث عن الثورة ذاتها، نجد لزاما علينا أن نتحدث عن روسيا عشية الثورة: عن الحرب الاستعمارية الدموية، عن خلاعة وقمعية القيصر، وعن عفونة الطبقة الحاكمة.

روسيا عشية الثورة:

بدأت الحرب العالمية الاستعمارية الأولى في عام 1914، وشاركت فيها روسيا القيصرية بأطماعها المحدودة. قبل بداية الحرب كانت الحركة العمالية تمضي من تصاعد إلى تصاعد ولكن مع اندلاع القتال – وفي السنتين الأولتين – حدثت تغييرات مهمة. عبأت الحكومة المجموعات الفعالة الثورية من العمال وأرسلتها إلى الجبهة، ففقدت الطبقة العاملة خير عناصرها الثورية. من ناحية أخرى، بدأت الحكومة في قمع سافر للإضرابات وعطلت الصحف وخنقت نشاط النقابات. كذلك، استخدمت المصانع الأطفال والفتيات والفلاحين بأعداد كبيرة عوضًا عن الذاهبين للحرب مما عرض الطبقة العاملة للترهل والتخلخل في تماسكها ووحدتها. ثم أنه بإزاء الطنطنة الوطنية المرتفعة في كل مكان، خفتت شعلة التحركات العمالية وانحسرت ومضاتها في صدور العمال.

في غمار كل هذا كان من الطبيعي أن ينعزل الثوريون البلاشفة عن أوساط العمال، خاصة وأن الحكم القيصري لاحق وسجن ونفى كل العناصر الأساسية في هذا الحزب الذي كان يعد الأخطر على مصالح طبقة حاكمة متعطشة للدماء.

نتيجة لهذا، خمدت جمرة الثورة التي كانت قد بدأت تشتعل قبيل الحرب. خمدت الجمرة. ولكنها لم تنطفئ. فقد كانت فقط مختبئة تحت كل هذا الغبار، تنتظر أول هبة ريح حتى تعاود الاشتعال. وللمفارقة، كانت الحرب – التي أخمدت الجمرة بادئ ذي بدء – هي العاصفة التي أشعلت الحريق من جديد.

وفيما يتعلق بالحرب، لم يكن اشتراك روسيا فيها قائمًا على أية أطماع امبريالية عريضة فيما عدا بعض التطلعات الإقليمية الضئيلة. كان اشتراك الحكم القيصري في الحرب – في الواقع – ثمنًا لكون روسيا دولة عظمى حديثة عليها أن تتحالف مع الدولة المتقدمة التي حصلت منها مؤخرًا على الأسلحة الحديثة كما حصلت من قبل على الميكنة الصناعية. فبالنسبة لحلفائها، كانت روسيا تمثل مستعمرة، وإن كانت من نوع أرفى من العادي. ولذا، لم تكن لعبة الحرب مضمونة لروسيا إلا بمقدار ظهورها في القتال كتابع مخلص عسكريًا للسادة الحلفاء، كما هو الحال في علاقتها الاقتصادية بهم.

ولم تكن الهزائم الجزئية التي منيت بها روسيا سوى نتيجة طبيعية للتناقض الحاد بين تخلفها الصناعي وبين متطلبات الحرب. وإذا كان لهذه الهزائم من ميزة فيه أنها جعلت الجماهير تدرك – بثمن الدم – كيف أن أرواحها ارخص ما في الوجود بالنسبة لطبقتها الحاكمة. إذ لم تفقد أي دولة أخرى مثلما فقد روسيا من ضحايا: مليونان وخمسمائة ألف قتيل، أي ما يعادل 40% من مجموع خسائر جيوش الخلفاء كلها. لم تأت من فراغ إذن مقولة آن “انجلترا مصممة على الصمود حتى آخر قطرة من دماء الجندي الروسي!!”.

بدأ الجنود يفقدون حماستهم للقتال، وبدأت بعض العناصر في التذمر والفرار من جحيم الموت على الجبهة ومن عذاب المعاملة في الثكنات. وانتشرت – بناءًا على ذلك – الأقوال التي نددت بالجيش المتخاذل الجبان. وكان رد فعل السلطة على تهاوي المعنويات هو إعدام الرجال رميًا بالرصاص.

في تلك الظروف، ارتفع صوت التحريض الثوري مرة أخرى في صفوف الجيش. حيث لعبت العناصر الثورية  التي أبعدت إلى الجبهة أول الحرب دورًا محوريًا في تحويل غضب الجنود (الفلاحين في الزى الرسمي) المكبوت إلى وعي سياسي بالروابط بين الموت على الجبهة وبين الاستبداد والاستغلال في الداخل.

ولكن إذا كان الجنود قد تعلموا بالخبرة المريرة أن الحرب ليست حربًا من أجلهم، وأن النصر فيها كالهزيمة تمامًا لن يبدل بؤس الأحوال، وأن السلام وحده هو ما يريدون. إذا كان الجنون قد تعلموا كل هذا، فإن السؤال قد أصبح “كيف يمكن وقف هذه الحرب الاستعمارية الغشوم بينما هناك داخل روسيا من يقف على الضفة الأخرى من نهر الدماء ليحصى القتلى ويحصى أيضًا الأرباح الطائلة التي يجنيها من وراء استمرار القتال؟!.

فبالفعل كانت الفترة ما بين عامي 1915 و1916 فترة رواج هائل بالنسبة لعدد من الشركات والمصانع التي حققت ثروات حقيقية وأرباح مرتفعة بسبب الحرب. فمثلاً إحدى شركات النسيج في موسكو وصلت أرباحها إلى حوالي 75%، وشركة مانيفاتورة أخرى وصلت مكاسبها إلى 111%.. وغيرها كثير بينما العاصمة تعاني من نقص الخبز والحاجات الأساسية. كان المجتمع الراقي كله في حالة انتعاش مثيرة للتقزز نظرًا لا وحال الدم التي يسير عليها من دون مبالاة. وكان من الطبيعي أن نجد سادة هذا المجتمع يرفعون ألوية الوطنية ليل نهار، وأن نجدهم – على الجانب الأخر – يتحسرون على حالة جيشهم المريض وعناصره المتمردة.

ولكن انتعاش البورصة الذي غذته دماء الجنود لم يكن لم نتيجة إلا باستمرار الحرب، وبالتالي استمرار التوتر والغليان في الثكنات والمصانع. وقد كان محقًا رئيس حزب الكاديت حين علق قائلاً: “إن التوتر وصل إلى على درجاته، وأننا نسير فوق بركان… يكفي أن يلقي أحدهم عود ثقاب حتى يشتعل حريق رهيب”. ولكن حزب الكاديت هذا، الذي وعى رئيسة بالحريق القادم، لم يكن له هم سوى مطالبة القيصر المبجل بأن ينعم على روسيا بحكومة جديدة مؤلفة من شخصيات تتمتع بثقة البلاد – وبالطبع لم تكن هناك أية شخصيات تتمتع بثقة الجماهير آنذاك.

ورغم كل هذا الخنوع لم يعر القيصر الليبراليين أي التفات ولم يفعل حيال الأزمات التي تحاصر إمبراطوريته وحكمه، سوى الاستمرار في بلادته ولا مبالاته المدهشين. وأصل القيصر هوايته في تأجيل انعقاد جلسات مجلس الدوما (أو الهيئة الاستشارية البرلمانية للدولة) المرة تلو المرة، وفي كل كرة كان نواب هذا المجلس يصرخون بأعلى أصواتهم: “يحيا القيصر”!!

ربما لم يكن وقت القيصر يسمح بهذه التفاصيل الثانوية! فإلى جانب جولات الصيد والتنزه بالقوارب واستقبال الضيوف وتناول الطعام القيصري معهم… إلى جانب هذه الأشياء التي حفلت مذكرات القيصر الشخصية بها (والتي تنم عن فراغه النفسي والفكري التام) لم يكن للقيصر من هم سوى الإنصات إلى خزعبلات زوجية المستمدة في الأساس من رؤى صديقهم المشعوذ الفاسد “راسبوتين” الذي تصرف في شئون البلاد كسيد بلا منازع.

كان هذا هو حال القيصرية في حشرجة النزع الأخير، عندما امتزج العمى الكامل بالبلادة وفقدان الصواب. ورغم إن الجميع في الطبقة الحاكمة النبلاء والارستقراطية كانوا يستشعرون العفن المستشري في طبقتهم (وهذا ما دعاهم في محاولة أخيرة للخلاص إلى اغتيال راسبوتين “رأس الأفعى”) إلا أنه لم يكن بوسع أحد أن يوقف التدهور. وكان الجميع يتحدثون عن ضرورة أحداث ثورة قصر (تغيير من أعلى). ولكن لم يكن يجرؤ أحد على المبادرة بفعل شيء قد يفتح عليه أبواب الجحيم.

وقد ظلت الأحلام بفعل “شيء إيجابي” تراود الارستقراطية المحتضرة حتى اللحظة الأخيرة التي ظهر فيها أن الطبقة الوحيدة التي تملك القدرة على “توقيف عربة القيصر والحكم الاستبدادي” كانت هي – من دون شك – الطبقة العاملة الروسية يؤازرها الفلاحون الفقراء.

أحداث الثورة: انتصار انتفاضة فبراير:

“..وتوجهت مجموعة من النساء، لم تكن كلها من العاملات، إلى دومًا البلدية للمطالبة بتوفير الخبز، ولكنها كانت كمن يطلب الحليب من تيس. وظهرت الأعلام الحمراء في أحياء متفرقة تحمل لافتات تقول بأن العمال يطالبون بالخبز، ويرفضون الحكم المستبد، كما أنهم لا يريدون الحرب…” (ليون تروتسكي – تاريخ الروسية).

هكذا اشتعلت الشرارة الأولى للثورة في صباح 23 فبراير 1917 من خلال مبادرة الجناح الأضعف في الطبقة العاملة (عاملات النسيج)، ومعهم النساء اللاتي فقدن ذويهن من جراء الحرب. لكن، منذ اللحظة الأولى كانت الصبغة السياسية واضحة لانتفاضة فبراير. فالعمال – في شعاراتهم ولافتاتهم – لم يستطيعوا فصل تدهور أوضاعهم عن ظروف الحرب مع ألمانيا أو عن فساد واستبداد القيصرية التي ترقص وتغني على طبول الحرب.

كانت انتفاضة فبراير تشق طريقها جيدًا رغم أن أحد من الحكام والقادة والزعماء وقتها – مثل حكومة القيصر أو الليبراليين أو حتى قادة الحزب البلشفي نفسه – لم يكن يعتبرها في البداية أكثر من مجرد مظاهرة مثل غيرها.. ستأخذ وقتها ثم تنتهي. وحدهم العمال والجماهير كانوا مصممين على أن تمضي الانتفاضة قدمًا معلنة للجميع أن ساعة التغيير الثوري قد حانت.

لم تعبأ الجماهير – المعبأة من قبل العناصر القاعدية في الحزب البلشفي – بالتردد الذي ساد قادة البلاشفة حول طبيعة الثورة في بادئ الأمر، أو برجعية وتخاذل القوى الاشتراكية الأخرى. بالطبع، لعب تردد البلاشفة وتخاذل الآخرين دورًا سلبيًا في تحديد الشكل السياسي الذي اتخذته – من فبراير وحتى أكتوبر – طاقة الجماهير الثورية، ولكن لم يكن في مستطاع أحد إيقاظ طاقة الأيام الأولى.

نزل العمال إلى الشوارع مصممين على طرح مسألة السلطة في مواجهة القيصرية ورجالها. وكانت القيصرية تهيئ نفسها – بعد أن عرفت أنها تواجه انتفاضة شبيهة بأحداث 1905 – للقمع السافر وفقًا لخطة مدروسة أعدت جيدًا باستقاء دروس ثورة 1905. كانت النقطة المفصلية في الخطة هي الاستخدام – في الوقت المناسب – لفصائل من الجيش لقمع المتظاهرين. ولكن أي جيش كان سيوظف في قمع الانتفاضة؟ لو ليس هو نفس الجيش المنهك، والذي يطالب بالسلم ولا يجده، والذي تسرى في أوساط جنوده (الفلاحين في الزى الرسمي) روح التذمر والرفض؟

أصابت الجنود – المرسلين لقمع الانتفاضة – حالة من التردد والبلبلة. فهم يشعرون تمامًا بما يعانيه العمال والعاملات. بل أنهم هم أنفسهم يعانون من ظروف شبيهة، ويريدون للجماهير أن تنتصر. ولكن ماذا لو انضموا للعمال ووجهوا أسلحتهم للقادة والحكام؟ أليس من الممكن – هكذا كان يفكر الجنود – أن ينتهي الأمر إلى إخماد الانتفاضة؟ بعدها سيعود الجنود إلى الثكنات ليدفعوا غاليًا ثمن تمردهم وعصيانهم.

الحقيقة أن أي ثورة يتوقف مصيرها على تحول الرأي العام في الجيش لصالح الثورة، ولن يحصل هذا التحول الحاد إلا إذا شعر الجنود بالثقة في إمكانية انتصار الثورة، أي إلا إذا شعروا بأن العمال مستعدون للنصر بأي ثمن حتى بدون أسلحة. هذا فقط هو ما سيدفع الجندي الفار من الثكنة إلى الاتحاد مع العمال الثائرين – وهذا بالضبط ما حدث في فبراير 1917.

كان العمال يشعرون بتردد الجنود، ويشعرون أيضًا بالحاجة إلى الاتحاد معهم بأي ثمن. ولذا فقد توجهت الطاقة الأساسية في الأيام الأولى لجذب الجنود. العاملات بالذات لعبن دورًا هامًا في ذلك. حيث كن يذهبن إلى الجنود ويتحدثن إليهم داعين إياهم إلى الانضمام للثورة. وشيئًا فشيئًا بدا حاجز الخوف يتحطم بانضمام بعض الجنود إلى المتظاهرين، حتى أتي صباح يوم 27 فبراير، وهو اليوم الذي تمردت فيه كتائب الاحتياط الواحدة تلو الأخرى والتحمت بالجماهير هنا وهناك. وفي مساء نفس اليوم – 27 فبراير – كان مدى التحول قد وصل إلى أن أحدى السرايا تمردت وتركت مواقعها باحثة عن أول تجمع للثوريين لتضع نفسها تحت قيادته ولوائه!

طوال هذه الأيام الأربعة العاصفة والحاسمة – من 23 فبراير – كانت القوى السياسية والبلاشفة منهم مختفية تقريبًا. فمثلاً أول منشور لمنظمة الاشتراكيين الديمقراطيين القريبة من البلاشفة لم يكتب إلا في مساء 26 فبراير وتم توزيعه صباح 27 وكان مليئًا بالعبارات المترددة في نواحي عديدة، ولم يحرض الجيش على الانضمام لجانب الشعب. أما بالنسبة للبلاشفة فلم يكتبوا منشورًا يدعون فيه الجنود للانضمام للعمال إلا في صباح 27 – بعد أن ترك الجنود ثكناتهم بالفعل في الصباح واتحدوا مع الجماهير التي بدأت في تنفيذ جدول أعمالهم الثوري باقتحام أقسام الشرطة ونزع السلاح عن أفرادها ثم أطلاق سراح العمال الموقوفين هناك وكذلك المسجونين السياسيين.

أحداث الثورة: من الذي قاد انتفاضة فبراير؟

“… وكانت أخبار الانتصارات المفرحة تأتي خبرًا أثر حبر. وكنا تملك آليات مدرعة. وكانت هذه الآليات مزينة بالأعلام الحمراء تنشر الرعب في كل الأحياء التي لم تخضع بعد الثورة. ولم يعد الثائر بحاجة إلى الزحف تحت بطن حصان رجل الشرطة. فقد انتصبت الثورة بكل قامتها..” (ليون تروتسكي – تاريخ الثورة الروسية).

وبينما كانت الثورة تنتصب بكل قامتها الشامخة، كان مسئولو الحكومة المتهاوية لا يزالون يطلبون وحدات جديدة لقمع المتظاهرين والمتمردين. وما أن تأتي الوحدات الخاصة المدربة جيدًا على القمع، والموثوق في ولائها (!)، حتى تختفي.. وتقول التقارير أن مصيرها غامض. بدون شكل لم يكن مصير هذه الوحدات غامضًا تمامًا. فلم تنبت لها أجنحة ولم تحلق كشخصيات أسطورية، وإنما التحمت بالثورة وذابت في الجماهير. كان الالتحام بالثورة هو أكثر الأفعال طبيعية لجنود وجدوا في الثورة الخلاص من قمع ضباط الجيش القيصري، ومن دموعية الحرب التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

وهكذا، وفي غضون أربعة أيام، كانت الثورة قد أمنت لنفسها الانتصار الأولى الساحق – فلقد سقطت السلطة القديمة كثمرة متعفنة، ولكن لما تزل مسألة طبيعة السلطة الجديدة غير محسومة. فالي أي مصير كانت تتجه الثورة؟ وإلى أي طبقة ستئول السلطة؟ لقد اكتسبت هذه الأسئلة أهميتها آنذاك من حقيقة أن القوى السياسية كلها – حتى البلاشفة أنفسهم – كانت متأخرة عن حركة الجماهير في الأيام الحاسمة الأولى. فإذا كانت الثورة تقدمت خطواتها الأولى وحيدة وبدون قادة، فمن إذن الذي قاد انتفاضة فبراير 1917؟ ومن إذن الذي سيجلس على كرسي الحكم؟

بالنسبة للسؤال الأول – من الذي قاد الانتفاضة؟ – كانت الإجابة الشائعة والمبتذلة هي أنه “لم يقد أحد الانتفاضة، بل هي التي انفجرت من تلقاء ذاتها”. الليبراليون وجدودا في هذه الفكرة – “انفجرت من تلقاء ذاتها” – ملاذا وحماية من إمكانية انعطاف الثورة ناحية البلاشفة، فتمسكوا بها بكل قوة. بلور الليبراليون اعتقادهم الساذج هذا في نظرية “القوى الأولية” التي مفادها أن الجماهير تحركت مطيعة لنداء داخلي لا شعوري. وبالرغم من الطابع الصوفي الأسطوري لهذه النظرية، إلا أنها استندت إلى حقيقة ضعف التنظيمات الثورية السرية الناجم عن السحق البوليسي المتواصل لها. فعلى سبيل المثال، لم تكن التنظيمات البلشفية قد قامت على قدميها بعد في فبراير 1917 بعد عهد كامل من السحق والتفتيت.

وقد فضح ليون تروتسكي – أحد أهم قادة ومؤرخي ثورة 1917 – زيف نظرية القوى الأولية ومنافاتها لحقائق الأحداث. أوضح تروتسكي أن انتفاضة فبراير “العفوية” لم تكن عفوية تمامًا. فقد كان لها قادتها المجهولين من العمال البلاشفة الذين تربوا – على مدى السنوات الماضية – في مدرسة لينين الثورية. ولكن لأن هؤلاء العمال الطليعيين – صناع التاريخ – لا يجدون الوقت ليدونوا أدوارهم الحاسمة والأساسية، فقد ضاعت تفاصيل أحداث الأيام الأولى التي قادوا فيها جماهير العمال إلى التظاهر والانتفاض واستمالة الجنود.

إلا أن تروتسكي يشير في نفس الوقت إلى أن هذه القيادة، وإن كانت كافية لتأمين انتصار الانتفاضة، إلا أنها لم تكن قادرة على وضع أدارة البلاد منذ البدء بين أيدي الطليعة الثورية. لقد كان هذا محتاجًا ليس فقط إلى عمال ثوريين مشبعين بروح النضال والثورة، ولكن إلى جهاز جزبي قوى يوجه طاقات هؤلاء العمال ويقودها إلى الاستيلاء على السلطة، وهذا ما لم يكن الحزب البلشفي – المتردد والمحافظ في قمته حتى ابريل – قادر على توفيره.

هنا بالضبط يكمن أصل الإجابة على السؤال الثاني: من الذي أوصلته أحداث فبراير إلى السلطة؟ لقد أوصلت انتفاضة فبراير الليبراليين (حزب الكاديت) إلى السلطة لأن قيادة البروليتاريا لم تكن مستعدة لا ستلام السلطة، بالرغم من أن السلطة الحقيقية كانت في يد سوفييتات (مجالس) عمال وجنود روسيا، أي في يد العمال والجنود.

لقد استلمت البرجوازية، المذعورة من الثورة، السلطة بسبب من الفارقة بين ثورية حركة الجماهير وتأخر حركة القادة. وعلى أساس هذا المفارقة وتناقضاتها كان إيقاع الأحداث يسير من فبراير وحتى أكتوبر.

ستقف الآن – بشكل مؤقت – عند هذه النقطة من تاريخ ثورة 1917، لننطلق منها في العدد القادم محاولين أن نقف على مغزى ونتائج “مفارقة ثورة فبراير”، وعلى المسيرة التي أدت إلى ظفر العمال بالسلطة وإلى احتفاظهم بها.

تسعدني تعليقاتكم

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.